كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الحسن: أثنى على سليمان ولم يذم داود.
العاشرة: ذكر أبو التمام المالكي أن مذهب مالك أن الحق في واحد من أقاويل المجتهدين، وليس ذلك في أقاويل المختلفين، وبه قال أكثر الفقهاء.
قال: وحكى ابن القاسم أنه سأل مالكًا عن اختلاف الصحابة، فقال: مخطىء ومصيب، وليس الحق في جميع أقاويلهم.
وهذا القول قيل: هو المشهور عن مالك وإليه ذهب محمد بن الحسين.
واحتج من قال هذا بحديث عبد الله بن عمرو؛ قالوا: وهو نص على أن في المجتهدين وفي الحاكمين مخطئًا ومصيبًا؛ قالوا: والقول بأن كل مجتهد مصيب يؤدّي إلى كون الشيء حلالًا حرامًا، وواجبًا ندبًا.
واحتج أهل المقالة الأولى بحديث ابن عمر. قال: «نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم انصرف من الأحزاب:ألا لا يصلينّ أحدٌ العصر إلا في بني قُرَيظة» فتخوّف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قُرَيظة، وقال الآخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت، قال: فما عنف واحدًا من الفريقين؛ قالوا: فلو كان أحد الفريقين مخطئًا لعيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم.
ويمكن أن يقال: لعله إنما سكت عن تعيين المخطئين لأنه غير آثم بل مأجور، فاستغنى عن تعيينه.
والله أعلم.
ومسألة الاجتهاد طويلة متشعبة، وهذه النبذة التي ذكرناها كافية في معنى الآية، والله الموفق للهداية.
الحادية عشرة: ويتعلق بالآية فصل آخر: وهو رجوع الحاكم بعد قضائه من اجتهاده إلى اجتهاد آخر أرجح من الأول؛ فإن داود عليه السلام فعل ذلك.
وقد اختلف في ذلك علماؤنا رحمهم الله تعالى؛ فقال عبد الملك ومُطَرِّف في الواضحة: ذلك له ما دام في ولايته؛ فأما إن كانت ولاية أخرى فليس له ذلك، وهو بمنزلة غيره من القضاة.
وهذا هو ظاهر قول مالك رحمه الله في المدونة.
وقال سحنون في رجوعه من اجتهاد فيه قول إلى غيره مما رآه أصوب ليس له ذلك؛ وقاله ابن عبد الحكم.
قالا: ويستأنف الحكم بما قوي عنده.
قال سحنون: إلا أن يكون نسي الأقوى عنده في ذلك الوقت، أو وهم فحكم بغيره فله نقضه؛ وأما إن حكم بحكم هو الأقوى عنده في ذلك الوقت ثم قوي عنده غيره بعد ذلك فلا سبيل إلى نقض الأول؛ قاله سحنون في كتاب ابنه.
وقال أشهب في كتاب ابن المواز: إن كان رجوعه إلى الأصوب في مال فله نقض الأول، وإن كان في طلاق أو نكاح أو عتق فليس له نقضه.
قلت: رجوع القاضي عما حكم به إذا تبين له أن الحق في غيره ما دام في ولايته أولى.
وهكذا في رسالة عمر إلى أبي موسى رضي الله عنهما؛ رواها الدارقطني، وقد ذكرناها في الأعراف ولم يفصل؛ وهي الحجة لظاهر قول مالك.
ولم يختلف العلماء أن القاضي إذا قضى تجوّزا وبخلاف أهل العلم فهو مردود، وإن كان على وجه الاجتهاد؛ فأما أن يتعقب قاضٍ حكم قاضٍ آخر فلا يجوز ذلك له؛ لأن فيه مضرة عظمى من جهة نقض الأحكام، وتبديل الحلال بالحرام، وعدم ضبط قوانين الإسلام، ولم يتعرض أحد من العلماء لنقض ما رواه الآخر، وإنما كان يحكم بما ظهر له.
الثانية عشرة: قال بعض الناس: إن داود عليه السلام لم يكن أنفذ الحكم وظهر له ما قال غيره.
وقال آخرون: لم يكن حكمًا وإنما كانت فتيا.
قلت: وهكذا تؤوّل فيما رواه أبو هريرة عنه عليه السلام أنه قال: بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت.
وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك؛ فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى؛ فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه؛ فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما؛ فقالت الصغرى: لا يرحمكَ الله هو ابنها؛ فقضى به للصغرى؛ قال أبو هريرة: إنْ سمعتُ بالسكين قط إلا يومئذٍ، ما كنا نقول إلا المُدْية؛ أخرجه مسلم.
فأما القول بأن ذلك من داود فتيا فهو ضعيف؛ لأنه كان النبي صلى الله عليه وسلم وفتياه حكم.
وأما القول الآخر فبعيد؛ لأنه تعالى قال: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث} فبين أن كل واحد منهما كان قد حكم.
وكذا قوله في الحديث: فقضى به للكبرى؛ يدل على إنفاذ القضاء وإنجازه.
ولقد أبعد من قال: إنه كان من شرع داود أن يحكم به للكبرى من حيث هي كبرى؛ لأن الكبر والصغر طرد محض عند الدعاوى كالطول والقصر والسواد والبياض وذلك لا يوجب ترجيح أحد المتداعيين حتى يحكم له أو عليه لأجل ذلك.
وهو مما يقطع به من فهم ما جاءت به الشرائع.
والذي ينبغي أن يقال: إن داود عليه السلام إنما قضى به للكبرى لسبب اقتضى عنده ترجيح قولها.
ولم يذكر في الحديث تعيينه إذ لم تدع حاجة إليه؛ فيمكن أن الولد كان بيدها، وعلم عجز الأخرى عن إقامة البينة، فقضى به لها إبقاء لما كان على ما كان.
وهذا التأويل أحسن ما قيل في هذا الحديث.
وهو الذي تشهد له قاعدة الدعاوى الشرعية التي يبعد اختلاف الشرائع فيها.
لا يقال: فإن كان داود قضى بسبب شرعي فكيف ساغ لسليمان نقض حكمه؛ فالجواب: أن سليمان عليه السلام لم يتعرّض لحكم أبيه بالنقض، وإنما احتال حيلة لطيفة ظهر له بسببها صدق الصغرى؛ وهي أنه لما قال: هات السكين أشقه بينكما، قالت الصغرى: لا؛ فظهر له من قرينة الشفقة في الصغرى، وعدم ذلك في الكبرى، مع ما عساه انضاف إلى ذلك من القرائن ما حصل له العلم بصدقها فحكم لها.
ولعله كان ممن سوّغ له أن يحكم بعلمه.
وقد ترجم النسائي على هذا الحديث: «حكم الحاكم بعلمه».
وترجم له أيضًا السعة للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يَفعله أَفْعلُ ليستبين الحق.
وترجم له أيضًا نقض الحاكم لا يَحكم به غيرُه ممن هو مثله أو أجلّ منه.
ولعل الكبرى اعترفت بأن الولد للصغرى عند ما رأت من سليمان الحزم والجد في ذلك، فقضى بالولد للصغرى؛ ويكون هذا كما إذا حكم الحاكم باليمين، فلما مضى ليحلف حضر من استخرج من المنكر ما أوجب إقراره، فإنه يحكم عليه بذلك الإقرار قبل اليمين وبعدها، ولا يكون ذلك من باب نقض الحكم الأول، لَكِن من باب تبدّل الأحكام بحسب تبدّل الأسباب.
والله أعلم.
وفي هذا الحديث من الفقه أن الأنبياء سوغ لهم الحكم بالاجتهاد؛ وقد ذكرناه.
وفيه من الفقه استعمال الحكام الحيل التي تستخرج بها الحقوق، وذلك يكون عن قوّة الذكاء والفطنة، وممارسة أحوال الخلق؛ وقد يكون في أهل التقوى فراسة دينية، وتوسمات نورية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وفيه الحجة لمن يقول: إن الأم تُستلحَق؛ وليس مشهور مذهب مالك، وليس هذا موضع ذكره.
وعلى الجملة فقضاء سليمان في هذه القصة تضمنها مدحه تعالى له بقوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}.
الثالثة عشرة: قد تقدّم القول في الحرث والحكم في هذه الواقعة في شرعنا: أن على أصحاب الحوائط حفظ حيطانهم وزروعهم بالنهار، ثم الضمان في المثل بالمثليات، وبالقيمة في ذوات القيم.
والأصل في هذه المسألة في شرعنا ما حكم به محمد صلى الله عليه وسلم في ناقة البراء بن عازب.
رواه مالك عن ابن شهاب عن حرام بن سعد بن مُحيّصة: أن ناقة للبراء دخلت حائط رجل فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالليل، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها.
هكذا رواه جميع الرواة مرسلًا.
وكذلك رواه أصحاب ابن شهاب عن ابن شهاب، إلا ابن عيينة فإنه رواه عن الزهري عن سعيد وحرام بن سعد بن مُحيِّصة: أن ناقة؛ فذكر مثله بمعناه.
ورواه ابن أبي ذئب عن ابن شهاب أنه بلغه أن ناقة البراء دخلت حائط قوم؛ مثل حديث مالك سواء، إلا أنه لم يذكر حرام بن سعد بن محيصة ولا غيره.
قال أبو عمر: لم يصنع ابن أبي ذئب شيئًا؛ إلا أنه أفسد إسناده.
ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتابع عبد الرزاق على ذلك وأنكروا عليه قوله عن أبيه.
ورواه ابن جريج عن ابن شهاب قال: حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أن ناقة دخلت في حائط قوم فأفسدت؛ فجعل الحديث لابن شهاب عن أبي أمامة، ولم يذكر أن الناقة كانت للبراء.
وجائز أن يكون الحديث عن ابن شهاب عن ابن مُحَيصة، وعن سعيد بن المسيّب، وعن أبي أمامة والله أعلم فحدَّث به عمن شاء منهم على ما حضره وكلهم ثقات.
قال أبو عمر: وهذا الحديث وإن كان مرسلًا فهو حديث مشهور أرسله الأئمة، وحدَّث به الثقات، واستعمله فقهاء الحجاز وتلقوه بالقبول، وجرى في المدينة العمل به، وحسبك باستعمال أهل المدينة وسائر أهل الحجاز لهذا الحديث.
الرابعة عشرة: ذهب مالك وجمهور الأئمة إلى القول بحديث البراء، وذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين إلى أن هذا الحكم منسوخ، وأن البهائم، إذا أفسدت زرعًا في ليل أو نهار أنه لا يلزم صاحبها شيء، وأدخل فسادها في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «جُرح العجماء جبار» فقاس جميع أعمالها على جرحها.
ويقال: إنه ما تقدم أبا حنيفة أحد بهذا القول، ولا حجة له ولا لمن اتبعه في حديث العجماء، وكونه ناسخًا لحديث البراء ومعارضًا له؛ فإن النسخ شروطه معدومة، والتعارض إنما يصح إذا لم يمكن استعمال أحدهما إلا بنفي الآخر، وحديث: «العجماء جرحها جبار» عموم متفق عليه، ثم خص منه الزرع والحوائط بحديث البراء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو جاء عنه في حديث واحد: العجماء جرحها جبار نهارًا لا ليلًا وفي الزرع والحوائط والحرث، لم يكن هذا مستحيلًا من القول؛ فكيف يجوز أن يقال في هذا متعارض؟! وإنما هذا من باب العموم والخصوص على ما هو مذكور في الأصول.
الخامسة عشرة: إن قيل: ما الحكمة في تفريق الشارع بين الليل والنهار، وقد قال الليث بن سعد: يضمن أرباب المواشي بالليل والنهار كل ما أفسدت، ولا يضمن أكثر من قيمة الماشية؟ قلنا: الفرق بينهما واضح، وذلك أن أهل المواشي لهم ضرورة إلى إرسال مواشيهم ترعى بالنهار، والأغلب عندهم أن من عنده زرع يتعاهده بالنهار ويحفظه عمن أراده، فجعل حفظ ذلك بالنهار على أهل الزروع؛ لأنه وقت التصرف في المعاش، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشًا} [النبأ: 11] فإذا جاء الليل فقد جاء الوقت الذي يرجع كل شيء إلى موضعه وسكنه؛ كما قال الله تعالى: {مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} [القصص: 72] وقال: {وَجَعَلَ الليل سَكَنًا} [الأنعام: 96] ويرد أهل المواشي مواشيهم إلى مواضعهم ليحفظوها، فإذا فرّط صاحب الماشية في ردها إلى منزله، أو فرط في ضبطها وحبسها عن الانتشار بالليل حتى أتلفت شيئًا فعليه ضمان ذلك، فجرى الحكم على الأوفق الأسمح، وكان ذلك أرفق بالفريقين، وأسهل على الطائفتين، وأحفظ للمالين، وقد وضح الصبح لذي عينين، ولَكِن لسليم الحاستين؛ وأما قول الليث: لا يضمن أكثر من قيمة الماشية، فقد قال أبو عمر: لا أعلم من أين قال هذا الليث بن سعد، إلا أن يجعله قياسا على العبد الجاني لا يفتك بأكثر من قيمته، ولا يلزم سيده في جنايته أكثر من قيمته، وهذا ضعيف الوجه؛ كذا قال في التمهيد وقال في الاستذكار فخالف الحديث في «العجماء جرحها جبار» وخالف ناقة البراء، وقد تقدّمه إلى ذلك طائفة من العلماء منهم عطاء.
قال ابن جريج قلت لعطاء: الحرث تصيبه الماشية ليلًا أو نهارًا؟ قال: يضمن صاحبها ويغرم.
قلت: كان عليه حظرًا أو لم يكن؟ قال: نعم! يغرم.
قلت: ما يغرم؟ قال: قيمة ما أكل حماره ودابته وماشيته.
وقال معمر عن ابن شُبْرُمة: يُقوّم الزرع على حاله التي أصيب عليها دراهم.
وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما: يضمن رب الماشية ليلًا أو نهارًا، من طرق لا تصح.
السادسة عشرة: قال مالك: ويقوم الزرع الذي أفسدت المواشي بالليل على الرجاء والخوف.
قال: والحوائط التي تحرس والتي لا تحرس، والمحظر عليها وغير المحظر سواء، يغرم أهلها ما أصابت بالليل بالغًا ما بلغ، وإن كان أكثر من قيمتها.
قال: وإذا انفلتت دابة بالليل فوطئت على رجل نائم لم يغرم صاحبها شيئًا، وإنما هذا في الحائط والزرع والحرث؛ ذكره عنه ابن عبد الحكم.
وقال ابن القاسم: ما أفسدت الماشية بالليل فهو في مال ربها، وإن كان أضعاف ثمنها؛ لأن الجناية من قبله إذ لم يربطها، وليست الماشية كالعبيد؛ حكاه سحنون وأصبغ وأبو زيد عن ابن القاسم.
السابعة عشرة: ولا يستأنى بالزرع أن ينبت أو لا ينبت كما يفعل في سنّ الصغير.
وقال عيسى عن ابن القاسم: قيمته لو حل بيعه.
وقال أشهب وابن نافع في المجموعة عنه: وإن لم يبد صلاحه.
ابن العربي: والأول أقوى لأنها صفته فتقوّم كما يقوم كل متلف على صفته.
الثامنة عشرة: لو لم يقض للمفسد له بشيء حتى نبت وانجبر فإن كان فيه قبل ذلك منفعة رعي أو شيء ضمن تلك المنفعة، وإن لم تكن فيه منفعة فلا ضمان.
وقال أصبغ: يضمن؛ لأن التلف قد تحقق والجبر ليس من جهته فلا يعتد له به.
التاسعة عشرة: وقع في كتاب ابن سحنون أن الحديث إنما جاء في أمثال المدينة التي هي حيطان محدقة، وأما البلاد التي هي زروع متصلة غير مُحظَرة، وبساتين كذلك، فيضمن أرباب النَّعم ما أفسدت من ليل أو نهار؛ كأنه ذهب إلى أن ترك تثقيف الحيوان في مثل هذه البلاد تعدّ؛ لأنها ولابد تفسد.
وهذا جنوح إلى قول الليث.
الموفية عشرين: قال أصبغ في المدينة: ليس لأهل المواشي أن يخرجوا مواشيهم إلى قرى الزرع بغير ذوّاد؛ فركب العلماء على هذا أن البقعة لا تخلو أن تكون بقعة زرع، أو بقعة سرح، فإن كانت بقعة زرع فلا تدخلها ماشية إلا ماشية تجتاح، وعلى أربابها حفظها، وما أفسدت فصاحبها ضامن ليلًا أو نهارًا؛ وإن كانت بقعة سرح فعلى صاحب الذي حَرْثه فيها حفظه، ولا شيء على أرباب المواشي.